بنت الجبل
القسم الثاني (بشارة نحس)
لم تتوقف غدير عن غنائها فقد أصبح الغناء عندها لغة تخاطب بها من لا يرى مأساتها ولا يعيش معاناتها ولا يشعر بحالها ... ملأت غدير قواريرها بالماء البارد العذب بعد أن غسلت وجهها وشربت ثم حملت هذه القوارير قافلة إلى بيتها ، لكنها ما كادت أن تقطع نصف الطريق صعوداً حتى شعرت بالتعب وبدأت تحس أن العالم يدور ولم تعد قادرة على أن توازن نفسها لتسقط على الأرض وتتدحرج واصلة إلى نبع الماء بعد أن سقطت منها القوارير وتكسرت..
انكسر عظم ساق غدير وأصابتها جروح كثيرة فحملها الأهالي من سكان الجبل إلى المركز الصحي القريب وقام الطبيب بتضميد جراحها وتجبير كسرها وبقيت مضطجعة على السرير حتى عادت لها قواها واستفاقت من غيبوبتها فكتب لها الطبيب قائمة بالأدوية والفيتامينات تشتريها من الصيدلية وقال لها :
- عليك بالغذاء الجيد وتناول الفواكه الغنية بالفيتامينات و شراء هذه الأدوية بالكامل لتتحسن صحتك وتناولها وفق إرشادات الصيدلاني فهو سيخبرك بها .
أتت غدير أمها بلفافات كثيرة على وجهها وساقها تحملها نسوة الجبل من الجيران الطيبين.
اندهشت الأم وصرخت وقالت :
- شوبكي يا روحي ؟
- مين اللي سوا فيك هيك ؟
- والله للـ.....
- يا ويلي عليكي يا بنتي ..
فأشارت لها ابنتها غدير بإشارات تفهمها أنها سقطت فاطمأنت الأم وجلست قرب ابنتها وتقول مخاطبة النسوة اللواتي قعدن :
- يا حظي على بنتي ، اليوم موعد خطبتا من حسين ...
قاطعتها النسوة ( موجهات الحديث لغدير ) :
- مين..؟!
- حسين ابن ...
قالت غدير :
- إي والله ، حسين ما غيرو ...
قالت امرأة :
- بس يا بنتي يا غدير .. هدا الولد امشراني .
- قلبي يا خاله .. وكمان بدي أخلص من الفقر اللي عايشين فيه .
- القلب وما يهوى ، وألله يوفق لنصفق .
ثم انصرفت النسوة بعد أن أخذن دعوة لحضور الخطبة وهنّ يتحدثن :
- هالخلق الي عمال يطلعو كل يوم الصبح بشتغلو عند أبوه لحسين وابنص الأجر الي بياخدو براّ .
- والله هو ظالم بس يمكن ابنه غير ويمكن بِحبا لَلْبنت .
- انسينا يا ناس ما انجيب لغدير فاتورة الدّوا .
- أنا راجعه لعندا جيب الفاتورة .
حان وقت المساء وتوافدت النسوة وبعض الرجال من حاشية حسين وأبيه إلى بيت غدير المرتفع وجلس الجميع في فنائه أخلاطاً وقامت الأم بتوزيع القهوة عليهم .
قال والد حسين :
- ليش وين عاروستنا ، ما اتجيب هي القهوة ، إزا مستحيّه أنا بدخل بطالعها .
لم تلتفت الأم لكلمات الرجل فاندهش وظنّ أنها لا تبالي بكلامه فبدا عليه الغضب لكن سرعان ما قالت إحدى النسوة:
- لا تواخزها .. ما ابتسمع يا سيدي .
- يعني طرشه ! يالله أحسن . ( قال والد حسين )
قالت إحدى النسوة :
- يا سيدي البيك ، إِجْر البنت مكسورة .
هنا طلب حسين الدخول لمشاهدتها في غرفتها ، فكان له ذلك بصحبة أمه وأبيه .
لم يكن حسين ابن صاحب البساتين الجبلية والأموال الطائلة يعلم أن هذه البنت فقيرة ويتيمة وأمها طرشاء فهو يظن أن الجمال ابن الأغنياء ولا يعلم أنه هبة من الله ربما يحرمه كثير من المترفين الأغنياء وإنما يعلم أن الأموال تصنع الوجوه الجميلة فهكذا تعلم من كبرياء أبيه ..
تأمل حسين في هذه الفتاة الكسيرة فأحجم عن خطبتها ليس لشيء ولكنه أضمر الشر في نفسه فلا تعلم بنت الجبل البريئة سوى أنه يحبها ..
- ما رح فوّت فريسة سهلة متل هاي . ( قال حسين في سره )
ثم تتابعت الأفكار في مخيلته بعد أن رفض والده التدني إلى مستوى الفقراء فيخطب لابنه وكذلك سولت لحسين نفسه السيئة أن يفترسها .
- أمّها طرشه .
- مالها أب
- في حدا بشك بوجودي معاها .
- إجرا مكسورة ... ما نا رايحه تغضر تتحرك .
أشرق الصباح الجميل بهدوئه وضوئه الساطع الذي يبعث على النشاط والحيوية وبأشعته الذهبية المنبعثة من قرص الشمس المتلألئ في أعالي السماء إلى أهالي الجبل الأخضر المصحوبة بالأمل ، لكن هذه الأشعة لم تصل بعدُ إلى بنت الجبل لأنها طريحة الفراش ولن تستطيع أن تبعث في قلبها الطري شيئاً من الأمل الذي فقدته باكراً من عمرها وباكراً مع تباشير الصباح الأسود المشؤوم .
لم تكن تتمنى بنت الجبل أن تكون حياتها هكذا رغم أنها كانت تعلم أن مثلها لا يليق به سوى المعيشة الضنكى ولم تكن تُمضي سوى ساعة جميلة من كل صباح مع الطبيعة من تحتها ومع عشيق وهمي لكنه على الأقل يحمل اللقب ذاته الذي يحمله كل إنسان عاشق ..
تُتابع الأم نظراتها نحو ابنتها .. إنها لاتسكت عن البكاء وذرف الدموع .
- إزا ما بدو اياكي هدا حقو يا بنتي ، هيّ الخطبه ..قبول يا رفض .. وانشا الله الله بعوضك أحسن منو . ليش ما اسمعتي من الجارات شو عم يحكو عليه إنو امشراني ومافيه خير متل أبوه فرد شكل .
لكن غدير المنكسرة تسكت على جرحها وتمسح دموعها مستمرة على حالها هذا وأمها لا تخالها إلا حزينة على حظها من خاطبها ..
ثم ودعت بنت الجبل البكاء بفكرة استقرت في نفسها إلى أن يحين وقت تنفيذها ...
رجعت غدير إلى شرفتها تطل من خلالها على بيت قاليها ومفترسها ابن الآغا الثري الظالم بعد أن تعافت ساقها واستقرت نفسيتها قليلاً لتتظاهر بنسيان ما حصل لها لبعض الوقت فلا بد لها الآن أن تحافظ على صفاء بالها لتتمكن من الانتقام بشكل صحيح يحقق لها غايتها ويخفف شيئاً من ألمها الدفين وتنهي لهذا الشاب سعادته التي يستقيها من دماء الناس ..
ها هو يمتطي أرجوحته من جديد ويعلو بها تارة وينخفض أخرى لا شغل له ولا مشغلة فرزقه يأتيه من غير أن يحرك ساكناً سوى من أوامره لحشمه الذين لا يألون جهداً في خدمته ...
أغنية قديمة أخرى من ديوانها الحزين بصوتها الندي مع قطرات الندى الصافية المتساقطة من أوراق الشجر مع صبح جديد ، لكن الصوت هذه المرة كان أكثر صدقاً في التعبير عن ألمها الداخلي ثم قذفت إليه بوردة حمراء ..
.............................. يتبع
فاطمة سعدالله ديري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق