بنت الجبل
القسم الاول (الشرفة)
كانت تطل من شرفة بيتها في أعالي سفح الجبل الأخضر الجميل صبيحة كل يوم ، تجلس وتدلي رجليها وتغني بصوتها الندي العذب أغاني قديمة فيسمعها الفلاحون الذاهبون إلى أراضيهم ومزارعهم وكذلك العمال والموظفون كلهم يستمع إلى صوتها الشجي ..
سلسة جبلية في نظم فريد الجمال ، يسكنه أهله منذ زمن طويل ، يبنون بيوتهم من الحجارة الجبلية من الجبل نفسه فتنظر إلى هذه العمارات وكأنها بنات الجبل لانسجامها مع لون الجبل بما يحاوطها من بساتين الفواكه ذات النوعية الممتازة والطعم الخالص التي تستقي ماءها من جوف الجبل أو من السيول أو من ذوبان الثلوج أو من أمطار الشتاء ..
تعلو البيوتات بعضها فوق بعضها لتمتد على طول سفح الجبل ، وتأخذ الطرقات والدروب والأزقة أشكالاً لولبيةً تعكف على ينابيع الماء الفياضة ذات الماء البارد بطبيعة خالقها الذي حبا هذا الجبل بهاء أخّاذاً ومنظراً طبيعياً يسحر الزائر ...
يقع بيت غدير بنت هذا الجبل على الطريق العام المنحدر من أعلى الجبل ليمر على نبع الماء الجبلي العذب الذي استمدت عذوبة صوتها منه فكانت تشرب منه وتغسل وجهها وتلعب بمائه وتبلل خصلات شعرها الذهبي كل يوم مرات عديدة ثم تملأ قواريرها بهذا الماء البارد تحملهم إلى بيتها ..
غابت غدير عن شرفتها فأصبح الذين كانوا يستمعون إليها يمرون وأنظارهم ترجع إليهم من غير رؤيتها فيتهامسون عليها ويتبادلون الضحكات المصحوبة بكلمات بلهجتهم الجبلية :
- يمكن اتجوزت .
- مو لتنخطب بالأول .
- شو عرّفك يمكن كانت مخطوبة .
- لو كانِت متل ما عم بتقولي ما شفناها عالشباك كل يوم بتغني بصوت عالي .
- يمكن مريضة .
- إه سيدي ، الله يشفيا .
- شو يا عالم ما ضل عندكن غير هالمستورة تحكو عليها.
- هاي إزا كانت ...
- إلعمه .. حرام عليكون يا ناس خافوا من ربكون ، ليش أنتو من وين ابتعرفوّا البنت .
- لسّا بتقلي بنت .
- خلص ، خلص .
- إي لأ يا سيدي مو خلص ، أنا بذات نفسي قريت رسالة كانت قدام بيتها مكتوب فيّا موعد مع شبّ بـ ..
- يا الله يا أستاز أمشي ولا اتضيع أجرك بالحكي بعرض المستورة .
- إه مو ليكون عندو أجر ، يخرب بيتوه عيونه بتضل بتبصبص على هالصبايا ، ما بِوفِّر حلوة ولا بشعة .
- أنتِ بالزات لا تحكي ولا كلمة لأنو عيوني ما ابتنشال عنك ولا لحظة.
- إي اسكوت واستحي على شيبتك واضبضب ،بناتك من جيلي ، والله ما يسمعك بابا ليبلبص عيونك التنتين .
- إحكي قد ما بدِّك ، والله لو بضل بعمري يوم لآخدك ونزِّلك ع خانتي وشرط اقياض وبدون مهر كمان .
- ليكو المنتوف ليكو..
تفرق المتحاورون كل إلى وجهته التي يقصدها فهذا إلى عمله وذاك إلى وظيفته والآخر إلى محطة الحافلات ليذهب إلى المدينة ...
سلك المارة طريقهم لليوم التالي في صبيحة باكرة على عادتهم فنظر الجميع إلى نفس الجهة التي غابت عنها تلك الفتاة الجبلية صاحبة الصوت الجميل فرد بصرهم خاسئاً كسابقه ثم ارتسمت على شفاههم ضحكات بأصوات تسمعها وكلمات تفهمها :
- ما قلت إلكون أنو البنت تجوزت .
- وسيدي تتجوز ، الله يبارك لهْ .
- ع اقبال البكاري .
- ارتحنا من صوتا .
- أصلاً ما فيّا شي حلو غير صوتا .
- والله ما تسمعك مرتك .
- إي واتسمع هي بلا شي لسانا ما بدخل لحلقا .
- الله ايعينَك عليها .
- شو رأيك أنتِ تريحيني وتتجوزيني ؟!
- والله روح دوّر على وحدة ختيارة متلك ، أنا لساتني صبية وحابة أتجوّز شبّ مو واحد مهرهر .
- الله يسامحك ، هلق أنا ختيار وامهرهر ؟!
- يا الله اتزوجيه ولا تزعليه حتى انزلغط .
- وأنا موافقة ، بس خليه يطلِّق هاي أم لسان .
- ولا ايهمك ، مرتي طالق من هاللحظة بالتلاتة .
وكذلك انصرف كل إلى وجهته .
أصبح الصباح وبزغ قرص الشمس في يوم جديد يطل على هؤلاء العمال والفلاحين والموظفين من الرجال والنساء ليسلكوا الطريق ذاته لكن عددهم نقص رجلاً وامرأة هما عريسا البارحة ولن يذهبا إلى العمل لمدة شهر كامل ...
انشدت أعين الجميع وفتحت آذانهم واتجهت نحو الشرفة ليفاجأ الجميع بعودة بنت الجبل بصوتها العذب الندي تغني بصوت حزين تارة وبفرح تارة أخرى لتستمر في غنائها ساعة كاملة والجمهور مندهش تماماً ثم سكتت عن غنائها ودخلت بيتها ..
- ساعة راحت ونحنا مانّا حاسين ، تأخرنا على شغلنا والله هلق بيخصموا علينا إجرة اليوم .
- قلت تلكون إنو مريضه .
- مو وقتك سكوت.. يالله بسرعة ع الشغل .
في صباح يوم آخر جديد ، علا صوت بنت الجبل بالغناء ولكن بهدوء فلا تحرك ساكناً كعادتها ..
لكنها لا تعير أحداً من المارة اهتماماً ولا تكلم أحداً ولا تبالي باهتمام الناس بها حتى لو خاطبها شاب معجب أو كهل مطرب بصوتها أو امرأة مندهشة أو أخرى غيورة تصرخ من أسفلها لتسكتها ، فكل الرجال زاغت أبصارهم نحوها ودب العشق في قلوبهم حتى صاحب القلب المرهق من متاعب الحياة أخذ يجدد حيويته وينعش قلبه ، فكل رجل وشاب من هؤلاء الفلاحين والعمال والموظفين يظن أنه ربما يقع اختيار هذه الفتاة الجبلية عليه فكانت نساء المتزوجين منهم غيارى وحيارى من هذا السحر الذي دخل إلى نفوس وعقول أزواجهن .
وقف الفلاحون والعمال والموظفون تحت شرفتها يستمعون إلى صوتها فصوت المغنيات لا يسمعونه سوى في الحافلات وسيارات الأجرة أما في بيوتهم فلا يوجد لديهم وقت للاستماع أو المشاهدة فأكثرهم لا يمتلك مذياعاً أو تلفازاً ...
- يا الله أبو عيون زايغة امبارحة تأخرنا ع الشغل كرمال مقصوفة الرقبة .
- لا تقولي مقصوفة الرقبة ، أوعك ، ترى بتجوزا بعدين .
- والله أنا الي بدي أتجوزا ( قالها أحد الفلاحين في حين كان الأول في عراك مع زوجته )
- لا واحياتك ، أنا ..
- لأ أنا ..
- مو أنت ، أنا وحياتكن .
واستعمل الفلاحون أيديهم والعمال معاولهم في ضرب بعضهم بعضاً في مشهد صاخب تحت شرفة بنت الجبل التي صرخت صوتاً أسكت الجميع ثم أشارت بيدها وهي تقول :
- لا أنت ولا هو .
فانتبه جميع الذكور وقال أحدهم :
- مين لَكاَن ؟
- ليكوه .. على المرجوحة تحت شجرة المشمش ..هنا التفت جمع المستمعين نحو ما أشارت لهم وإذا بشاب يافع يقعد في أرجوحة حديدية يتأرجح تحت ظل شجرة مشمش كبيرة تقع في فناء بيته الجبلي الرحيب أسفل الطريق المار بين بيت العشيقين ...
طأطأ الرجال رؤوسهم وهرولوا وتفرق الجمع خجلاً من بنت الجبل التي كانت تغني لعشيقها فهي بنت يتيمة الأب ووحيدة أهلها وكذلك أمها فاقدة للسمع طرشاء فكانت غدير تبث همومها للعصافير والأشجار والأحجار والمارة بصوتها الحزين ، إلا أن هذا الشاب استفاق لقصة حب نسجتها له بنت الجبل بخيوط الشمس الباكرة وفي إطلالتها الساحرة من الشرفة المرتفعة ...
.......................... يتبع
فاطمة سعدالله ديري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق